الستينيات و ما ادراك ما الستينيات

(1) الحرية و الناصرية

إن الناصرية من خلال مسيرة كفاحها الطويلة والمريرة ومن خلال إنفتاحها على العالم وعلى كل معطيات تطوره ودراستها لتجارب الشعوب الأخرى ، وضعت الأهداف الأساسية للثورة العربية المتمثلة بالحرية والإشتراكية والوحدة .

وهي في طرحها لهذه الأهداف لم تضعها في مواقع الجمود المذهبي بل فتحت الأفاق الواسعة للتطور في مفاهيمها مع تطور الثورة العربية وصعودها .

لقد صاغت الناصرية للأمة العربية نظريتها السياسية وفكرها الثوري واستخلاصا من تراث الأمة الحضاري من واقع التجربة والممارسة وواقعها المعاصر ، وضمنتها في مواثيق فكرية ممنهجة ثلاث :
فلسفة الثورة ، الميثاق ، بيان 30 مارس ، إضافة الى الممارسة الثورية التي تعتبر كمنهج هي الأخرى والتي قادها القائد المعلم عبر ثمانية عشر عاما .

ولقد أكد القائد المعلم للقوى الناصرية هذا الأمر منذ 1968 ، فذكر ان الميثاق هو بالنسبة لثورتنا العربية نظريتها السياسية وهو بالنسبة لإشتراكيتنا فكرها الثوري .

إن ترتيب الأهداف الأساسية لا يعني تسلسلا تاريخيا حتميا في تحقيقها فإن ما يصلح لمرحلة من مراحل النضال قد لا يصلح لكل المراحل . إن الوحدة لا بد من أن تكون تقدمية أي ذات محتوى إشتراكي ، وإن الإشتراكية لا يمكن أن تنجح وتتعمق ضمن حدود التجزئة كما إن الحرية لا يمكن أن تكون حقيقية لأي جزء من أجزاء الوطن العربي ما دامت هناك أجزاء محتله وما دامت التجزئة قائمة والحرية السياسية لا بد أن تتكامل مع الحرية الإجتماعية .

إن أية نظرية لا بد أن تتميز بصفتين أساسيتين هما : العملية الثورية والعلمية ، والعقل العلمي بطبيعته ينفتح على الواقع ويتغذى من كل التجارب الإنسانية ويرفض الأطر المسبقة . والنضال القوي الإشتراكي مطالب بتحقيق ثورة ذات ثلاث إتجاهات ، إتجاه ثوري علمي على الصعيد الفكري والممارسة ، وعلى الصعيد الإقتصادي لتحويل العلاقات الإجتماعية شبه الإقطاعية وشبه الرأسمالية إلى علاقات جديده إشتراكية ، وعلى صعيد النضال القومي لنسف كل حدود الفرقة بين أجزاء الوطن العربي .
وخلاصة لما قلناه ، لقد وجدت الناصرية إن الواقع الذي تعيشه الأمة العربية قائم على الإستعمار والإستغلال والتجزئة ، ولا بد من التصدي لهذا الواقع وهدمه وبناء مجتمع عربي جديد موحد قادر على متابعة مسيرة الحضارة العربية والإنسانية ، ولا سبيل الى تحقيق ذلك إلا عن طريق الحرية والإشتراكية والوحدة التي هي بالتالي الحلول العلمية لمشاكل الأمة العربية .


أولا : في الحرية
إن الحرية بالمفهوم الناصري هي حرية الوطن وحرية المواطن .

حرية الوطن :
إن الحرية لا بد أن تعني التحرر الإقتصادي والسياسي في أشكال السيطرة الإستعمارية . ونحن ندرك مدى إلتزام القيادة الثورية الناصرية بهذا المنطلق وخوضها صراعا عنيفا مع الإستعمار والإمبريالية في شتى مواقفها على أرض الوطن العربي . مما زلزل أركان وجودها وضرب مرتكزاتها المتمثلة في الرجعية والرأسمالية . أن الصيغ التي أعتطها الرجعية والرأسمالية للحرية أفرغتها من مضامينها الحقيقية وحولتها إلى حرية بيد الطبقات العليا من المجتمع وحرمتها على الغالبية العظمى من الشعب .

إن الحرية كانت هي حرية رأس المال والاقطاع مما أهله ذلك لأن يفعل ما يشاء لتثبيت مصالحه وحمايتها ولو بالترابط مصلحيا مع الإستعمار والحرية السياسية ----- بفعل سيطرة الإقطاع ورأس المال .

إن الحرية التي حصلت عليها بعض الأقاليم العربية ... بقيت ناقصة لأنه لم يرافقها تحقيق للحرية الإجتماعية بدأ بحرية العمل والعيش والتفكير للغالبية العظمى من أبناء شعبنا وانتهاء بضياع حرية النقد بضياع حرية الصحافة .

إن حرية الوطن تعني أن الإرادة العربية يجب أن تكون وحدها هي السائدة ، بدون نفوذ أو تبعية ، ومن أجل ذلك لا بد من أن يطرد الاستعمار الصهيوني (إسرائيل) الذي هو في حقيقة الامر جيبا من أخطر جيوب الإستعمار ضد نضال الشعب العربي وأهدافه .

إن الناصرية ، قد اعتبرت الإستعمار بكافة أشكاله العدو الأول لحرية العرب ، لأن هدف الإستعمار هو أستيعاد الشعب العربي واستغلاله وبقائه متخلفا ومجزءا ، كما أن النفوذ والتبعية قيد على الحرية العربية والإستقلال الحقيقي وتكبيل الإرادة العربية وعائق دون بناء الدولة العربية الواحدة

وفي سبيل تحقيق هذا الهدف ، فإن الثورة الناصرية خاضت من أجل الحرية العربية أشرس المعارك ضد الإستعمار وكشفت جميع أقنعته وحاربته في أوكاره ، فطردت قواعده العسكرية والإقتصادية من أجزاء واسعة في الوطن العربي وجابهته في معركة السويس وحطمت حلف بغداد وأحبطت مشروع أيزنهاور وقاومت أي ضغط للدخول في مناطق النفوذ والتبعية ومدت يد المساعدة لكل الإنطلاقات الثورية في الوطن العربي ، مما دعا الإستعمار إلى حشد كل القوى المساعده له وفي مقدمتها (إسرائيل) لاستخدامها كأداة ضد الثورة وجماهيرها فكانت حرب حزيران 1967 ، إلتي لم يكن هدفها التوسع على حساب الأرض العربية فحسب بل تحطيم إرادة الأمة التي حررتها الناصرية من قيودها ووضعتها موضع الصمود .

لقد توجهت الثورة الناصرية لبناء القوة الإقتصادية التي هي مصدر الصمود والتقدم ، فوضعت خطط التنمية الكفيلة برفع مستوى الجماهير ومضاعفة دخلها ، وبناء القاعدة الإقتصادية الضخمة التي تدعم جبهة القتال ، كما سارت في طريق الثورة الإجتماعية لقطع الصلة نهائيا بين الإستعمار وحليفه الرجعية وإقامة الحياة الديمقراطية السلمية لقوى الشعب العاملة . وكذلك عندما قدمت الثورة الناصرية إيمانا منها بحق الشعوب بالحرية ، وبأن أمتنا جزء من الجبهة المعادية للإستعمار العالمي المعنويات المادية والمعنوية لحركات التحرر العالمية ، وانتصرت لها في جميع الميادين وأعطت لهذه الحركات النموذج الرائع في الثورة ضد الإستعمار فكان لها آثار عميقة وبعيده على حركات التحرر في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية ضد الإستعمار بكافة أشكاله .

حرية المواطن :
تعني تحرير الإنسان العربي سياسيا وإجتماعيا ، ذلك أن الديمقراطية لا تتحقق إلا بوجود مواطنين أحرارا يستطيعون التعبير عن آرائهم بكل الحرية دون خوف او ------ ، لذلك كان إصرار القائد المعلم على ضرورة الربط الحرية السياسية والحرية الإجتماعية ، لا يمكن الفصل بينهما ، فهما جناحا الحرية الحقيقية وبدونهما أو بدون أي منهما لا تستطيع الحرية أن تحلق الى آفاق الغد المرتقب .
ولقد كان الإصرار من جانب الثورة الناصرية من الدروس المستفاده الإشكال الديمقراطية التي مارستها الرجعية بالخداع والتضليل بحكم سيطرتها على القوة الإقتصادية . فكانت توجه العمل السياسي بما يخدم مصالحها ومصالح الإستعمار المتحالفة معه . إنّ النظام السياسي في بلد من البلدان ليس إلا انعكاسا للأوضاع الإقتصادية السائدة فيه وتعبيرا دقيقا للمصالح المتحكمة في هذه الاوضاع الإقتصادية .
وعلى ضوء هذه الحقيقة ، فإن سيادة الإقطاع من رأس المال المستغل على إقتصاديات الأقاليم في الوطن العربي كانت لا بد من أن تمكن لهما طبيعيا وحتميا من السيطرة على العمل السياسي فيه وعلى أشكاله وعلى ضمان توجيهها لخدمة التحالف بينهما على حساب الجماهير وإخضاع هذه الجماهير بالخديعة أو بالأرهاب حتى تقبل أو تستسلم .
أن الديمقراطية على هذا الاساس لم تكن إلا ديكتاتورية الرجعية ، ذلك أن حق التصويب قد فقد قيمته حين اتصاله المؤكد بالحق في لقمة العيش ، وأن حرية التصويب من غير لقمة العيش وضمانتها فقدت كل قيمة وأصبحت خديعة ومضلله للشعب . وتبعتها في ذلك فقدان حرية التنظيم الشعبي وحرية الصحافة وحتى حرية العلم .

أن المجتمعات العربية ليست مجتمعات رأسمالية محضة بل هي مجتمعات شبه إقطاعية قبليه ، ولهذا بقيت البرلمانية في وطننا مجرد بقاء فوقي كرتوني ونسخة مزيفه عن البرلمانية الغربية ولم تستطع مواجهة مهام النضال القومي الإشتراكي من جهة ، كما أنها لم تستطع ترسيخ جذورها في الحياة العربية .
لقد عكست البرلمانية بوطننا الوضع الاجتماعي المتخلف . ومن خلال التناقض بين مصالح الجماهير وواقع البرلمانية الرجعي وكالعكس سلبي عفوي لغضب الجماهير ، انفجرت الانقلابات العسكرية لذا فأن شكل البرلمانية املاه الواقع الموضوعي الملموس لتطور امتنا خلال تطور النضال الاجتماعي والسياسي لها لذا ، ان البرلمان الذي اقامه هذا الدستور ، لم يكن حاميا لمصالح الشعب وانما كان بالطبيعة حارسا للمصالح التي منحت هذا الدستور (الميثاق) ؟
لقد فضحت الناصرية هذا التزييف المروع في ديمقراطية الرجعية وأصرت على بناء الديمقراطية السليمة عن طريق تحرير الانسان العربي سياسيا واجتماعيا ، وعلى هذا الاساس فان الناصرية قررت :

1- توفير الضمانات اللازمة لحرية الانسان العربي بتحريره من الاستغلال في جميع صوره --------- فرصة متكافئة في نصيب عادل من الثروة الوطنية وبتخليصه من كل قلق يبدد امن المستقبل في حياته ، وبهذه الضمانات يملك المواطن حريته السياسية ويقدر ان يشارك في تشكيل السلطة التي يرتضي حكمها .
2- تحقيق الديمقراطية السياسية لقوى الشعب العاملة لانها تشكل الاكثرية الساحقة للشعب . هذه الاكثرية صاحبة المصلحة الحقيقية في تقدم المجتمع ، فالديمقراطية بحد ذاتها هي توكيد السيادة للشعب ووضع السلطة كلها في يده وتكريسها لتحقيق اهدافه ، لذلك كان لا بد ان يسقط نهائيا والى الابد تحالف الاقطاع ورأس المال المستغل ، وان يقوم البديل الشرعي وهو تحالف قوى الشعب العاملة القادر على احلال الديمقراطية السليمة محل الديمقراطية الرجعية .
3- وضع الحقائق دائما في متناول الجماهير . ذلك ملك الجماهير ---- تنكر لا بسط مبادىء الديمقراطية . ان الشك في سلامة حس الجماهير –(لان الشعب هو الامعلم)—هو الانزلاق نحو التعصب والانغلاق ، وان ----- الحقيقة امام الجماهير ستكون وسيلة لتثقيفها وتكامل نضجها .
والطلائع الثورية مطالبة دائما بمصارحة الشعب بكل ما يتعلق بشؤونه السياسية والاقتصادية والاجتماعية .
4- ان ممارسة الديمقراطية يفرض تحرير المرأة العربية . وان بناء مجتمع حر لا يمكن ان يتم الا بتحقيق التوجيه العلمي والعملي للمرأة في معركة البناء والتقدم .
- ان حرية المرأة تقتضي نفس العادات والتقاليد المتخلفه والتي أصبحت في هذا العصر باليه ومعيقه ان المرأة تمثل نصف المجتمع ، وليس من الثورية في شيىء ان يبقى هذا النصف مشلولا غير فاعل . ان تحقيق الحرية الاقتصادية والسياسية للمرأة هو مدخل حقيقي لتقدم المجتمع العربي .
5- ان الديمقراطية يجب ان تتسلسل وهي صاعدة الى الاعلى لتحقيق مبدأ جماعية القيادة ، الصورة الديمقراطية للسلطة الثورية في القمة .
- ان جماعية القيادة ليست عاصما من مجموع الفرد فحسب ، وانما هي تأكيد للديمقراطية على اعلى
المستويات كما انها في الوقت ذاته ضمان للاستمرار الدائم المتجدد – الميثاق .
6- ان الناصرية رفضت اي شكل من اشكال التحكم الطبقي ، لان هذا التحكم لا يمثل الديكتورية الطبقية على مجموع الشعب ، وبالتالي فان تحالف قوى الشعب العاملة ( العمال ، الفلاحبن ، الجنود ، الوطنيين ، المثقفين الثوريين ، والرأسمالية الوطنية غير المستغله هي الصيغة الحقيقية للوحدة الوطنية وهي الطريق الوحيده لتذويب الفوارق بين الطبقات .
لذلك كله ، كانت حرية المواطن التي هي اثمن ما في الوجود هدفا رئيسيا من اهداف الناصرية ذلك لان الانسان الحر هو اساس المجتمع الحر وهو بناؤه المقتدر . والحرية وحدها هي القادرة على تحريك الانسان العربي الى ملاحقة أهداف امته ومتابعتها باستمرار حتى يتم تحقيقها
كاملة .



(2) الاشتراكية الناصرية
ينبغي أن نعرف معنى اشتراكية عبد الناصر، وأن نرصد بعض ملامحها الأساسية :

كان عبد الناصر يعلن دائما خلافاته مع الماركسية وتطبيقاتها، اختلف مع ماديتها الجدلية بإيمانه بالتوحيد الديني وإيمانه بمحورية الدور الإنساني في التطور، واختلف مع المادية التاريخية في إيمانه بالتميز القومي الحضاري وعدم اعتبار الصراع الطبقي قوة دافعة وحيدة للتاريخ، ولم يسلم بالتقسيم الخماسي ذي المنشأ الأوروبي لتطور التاريخ البشري (المشاعية البدائية ـ العبودية ـ الإقطاع ـ الرأسمالية ـ الشيوعية بعد مرحلة انتقا
ل اشتراكي) ولم يؤمن عبد الناصر أبدا بيوتوبيا المجتمع الشيوعي، وأكد أن ما بعد الاشتراكية هو 'المزيد من الاشتراكية' لا الشيوعية، واختلف مع تطبيقات النظام الاشتراكي المشتق تاريخيا من الماركسية في رفضه لديكتاتورية الطبقة العاملة، أو أن يكون مجرد وجود ملكيات خاصة نافيا للاشتراكية، وأكد بالمقابل على مفهوم الشعب العامل، ووجود ملكيات خاصة في ظل النظام الاشتراكي وفي مجال الزراعة بالذات.

ولم تعن خلافات عبد الناصر مع الماركسية، انه أنكر وحدة الخصائص الجوهرية للاشتراكية كنظام اقتصادي حديث، أو أنكر ضرورة التخطيط المركزي الشامل والملكية الاجتماعية لأدوات الإنتاج، بالعكس كان دائما يؤكد وحدة الاشتراكية، ويؤكد وحدة القيمة الأساسية التي تصدر عنها وهي 'منع استغلال الإنسان للإنسان وتصفية الفوارق بين الطبقات'، واعتبر ذلك كله مشتركا إنسانيا عاما، وإن اختلفت التطبيقات والخصائص القومية والدينية .
ولم تكن اشتراكية عبد الناصر نوعا من الانتقاء الاختياري، بل كانت حلا حتميا 'لمشكلة التخلف الاقتصادي والاجتماعي وصولا ثوريا إلى التقدم، حتمية فرضها الواقع، وفرضتها آمال الجماهير، وفرضتها الطبيعة المتغيرة للعالم' وليس مطروحا أمام البلدان المتخلفة ونحن منها إمكانية النمو بالطريق الرأسمالي سوى بارتباط بالاحتكارات العالمية التي تجر الوطن إلى حظيرة التبعية، ومن ثم تطابق مفهوم التنمية المستقلة وفض روابط التبعية مع مفهوم اشتراكية عبد الناصر .
واشتراكية عبد الناصر تؤكد على قيادة القطاع العام القوي والقادر والمملوك للشعب لعملية التنمية المستقلة، وعلى وجود قطاع خاص يخضع لدواعي واشتراطات خطة تنمية شاملة تصوغها إرادة وطنية تهيمن على مراكز القرار السياسي والاقتصادي، فالتخطيط الكفء هو الطريقة الوحيدة التي تضمن استخدام جميع الموارد الوطنية المادية والطبيعية والبشرية بطريقة عملية وعلمية وإنسانية، لكي تحقق الخير العام لمجموع الشعب' ولا تخطيط فعال 'بدون سيطرة الشعب على كل أدوات الإنتاج وتوجيه فائضها طبقا لخطة محددة '.
واشتراكية عبد الناصر تؤكد على قيمة العمل باعتباره محددا للقيمة الإنسانية وللمكانة الاجتماعية والعائد الاقتصادي وفقا لمبدأ 'لكل بحسب عمله'، وعلينا أن نقضي على أية امتيازات تتجاوز حق العمل وقيمته في خدمة المجتمع دون أي اعتبار آخر، و'المساواة في الاشتراكية هي مساواة الفرصة المتكافئة بعد تصفية الامتيازات الطبقية، وبعد الفرصة المتكافئة لكل مواطن، فإن كل مواطن هو الذي يحدد بنفسه وقدراته الذاتية ودوره في المجتمع 'ولا يعني التركيز على قيمة العمل نفي حق الإرث، فالإرث 'شرع سماوي وقطعة من الطبيعة البشرية ذاتها، لكننا نريد أن يصبح الإرث في الكفاية وليس في الحاجة'.
واشتراكية عبد الناصر ـ أخيرا ـ لا تتحقق إلا بنقل السلطة إلى تحالف الشعب العامل، فالسلطة السياسية هي أداة الشعب في إحداث التغيير الاجتماعي . والارتباط عضوي بين الديمقراطية والاشتراكية ' حتى ليصدق القول بأن الاشتراكية هي ديمقراطية الاقتصاد، وأن الديمقراطية هي اشتراكية السياسة'.

تلك بعض ملامح اشتراكية عبد الناصر، وهي تقوم في بساطة على الكفاية في الإنتاج والعدالة في التوزيع، توسيع قاعدة الثروة الوطنية ثم نصيب عادل من الثروة الوطنية لكل بحسب عمله.

ولا تناقض بينها أبدا وبين الإسلام بالعكس ثمة اتساق كامل، إنها اجتهاد وطني استقلالي متفاعل مع العصر ومتصل في روحه بأنبل مراحل التاريخ الإسلامي، والإسلام ليس ضد التأميم، وثمة حديث نبوي مشهور 'الناس شركاء في ثلاث : الماء والكلأ والنار' وفي قول آخر يضاف 'الملح'، وقد كانت تلك هي المقومات الأساسية وأدوات الإنتاج الرئيسية في مجتمع النبوة وحجزت جميعها عن ملكية الأفراد، والملكية في الاسلام حق الله والإنسان مجرد مستخلف فيها ونزعها مشروع إذا تخلفت عن أداء وظيفتها الاجتماعية، والإسلام ينهي عن اكتناز الأموال ويبشر المكتنزين بعذاب أليم، والإسلام يحرم الربا والاستغلال الذي يصنع الرأسمالية، والعمل قيمة مقدسة في الإسلام وحق وواجب، والإسلام لا يعترف بثروة إلا أن يكون مصدرها عملا أو ميراثا .

كان المفكر الإسلامي علي شريعتي يقول دائما: إن كل نص قرآني به لفظة 'الله' يقصد بها 'الشعب' فالله مع الشعب دائما وضد ثالوث الاستبداد والاستغلال والكهانة .

لا نقول إن الاشتراكية الناصرية هي الإسلام، وليس في الإسلام صيغ نظامية وتطبيقية تقعد بنصوصه المقدسة عن مقتضى الصلاح لكل زمان ومكان، إنها نتاج عقلي وضعي اجتهادي يوافق قيم وضوابط الشرع الإسلامي، والدليل: أن كل اجتهاد صادق، مبرأ من شوائب الظلم والهوى الطبقي، وحتى ولو أتى من جماعات الإسلام السياسي المعادي للناصرية، دار حول النتيجة نفسها .. وإن بصورة مبهمة .

سيد قطب ـ قبل نكسته الفكرية في الستينيات - قال في كتابه ' العدالة الاجتماعية في الإسلام' :
إن خلاف الإسلام مع الشيوعية، هو أنه يمدها بالقيم الروحية الغائبة عنها (أولم تقل الناصرية ذلك) واعتبر أن الإسلام دين العدالة الاجتماعية والمساواة البشرية الكاملة، وقال إن الزكاة وحدها ليست كافية لتحقيق العدالة , وأن المجتمع لابد أن يسيطر بالملكية العامة على المياه والكلأ والطعام والوقود وليس للأفراد الحق في امتلاكها، وأكد على أن الملكية الخاصة حق للمجتمع ، وأن صاحبها مجرد 'خولي' يديرها نيابة عن الآخرين، وأضاف : أن حق الملكية في الإسلام مرتبط بالمصلحة العامة للمجتمع، وأن الانحراف عن المصلحة يوجب التأميم .

إنه رأي يشبه رأي قائد إخواني سوري هو مصطفى السباعي، وقد أصدر السباعي في الستينيات كتابه المسمى 'اشتراكية الإسلام' وأكد فيه: حق الدولة في التأميم بعد أخذ رأي الخبراء الاقتصاديين .

قال سيد قطب ما قاله قبل الثورة، وقال مصطفى السباعي ما قاله وقت أن بدأ عبد الناصر تجربة التحول الاشتراكي .

إذن فالأمر ليس خلافا في الإسلام، إنه داء التعصب ومواريث الدم السياسي .
ثم إن تلك النصوص بقيت مجرد ملاحظات متفرقة، ولم تنتظم في رؤية اقتصادية متكاملة تدفع عن 'الإسلاميين' تهمة ممالأة الرأسمالية، وبقيت مجرد أقوال راوغتها أفعال الماضي والحاضر، ولا نصادر على المستقبل .





(3) الوحدة العربية
بدات الامة العربية بمسيرة نضالية صعبة ومعقدة للتغلب على مرحلة الجمود والتخلف والتبعية التي عاشتها خلال القرون السابقة ولم تتوقف حركة النضال الثوري والثورات العربية المطالبة بالحرية والاستقلال من التسلط والارهاب والحكم العثماني والاستعمار الغربي طوال تلك القرون السابقة لم يكن اعلان الوحدة مابين سوريا ومصر باسم الجمهورية العربية المتحدة عام 1958 عملا انتهازيا

بدات الامة العربية بمسيرة نضالية صعبة ومعقدة للتغلب على مرحلة الجمود والتخلف والتبعية التي عاشتها خلال القرون السابقة ولم تتوقف حركة النضال الثوري والثورات العربية المطالبة بالحرية والاستقلال من التسلط والارهاب والحكم العثماني والاستعمار الغربي طوال تلك القرون السابقة لم يكن اعلان الوحدة مابين سوريا ومصر باسم الجمهورية العربية المتحدة عام 1958 عملا انتهازيا او حدثا فرديا طارئا وانما كان استجابة لارادة الشعب العربي ولشعب سوريا ومصر بشكل اساسي ورئيسي فوحدة الامة العربية هي التجسيد الحي والعمل الجاد للحركة الشعبية العربية لان العرب يملكون المقومات الرئيسية والعناصر الاساسية لوحدتهم وحدة الارض التاريخ اللغة و العادات و التقاليد والثقافة المشتركة فدويلات سايكس بيكو القديمة والجديدة وجدت بعد الحرب العالمية الاولى لتقسيم الوطن العربي وللمحا فظة علية وزيادة التجزاة فالشعب العربي عاش طوال الفترة التاريخية السابقة في وطن واحد لايعرف الحدود الجغرافية المصطنعة الحالية ولذلك تبقى الوحدة هي المطلب الفعلي والتجزاة عامل عارض لانها فرضت بشكل يتناقض مع الواقع العملي والفعلي للشعب العربي جغرافيا وتاريخيا وبشريا فالنظام الرسمي العربي يدعو للوحدة كلما شعر بالخوف والخطر من الداخل والخارج يهددة ويلغي امتيازاتة وحكمة الوراثي وبسرقة الموارد الاقتصادية ووضعها في بنوك الغرب وما دويلات سايكس بيكو الا للمحافطة على الحدود الاقليمية وتثبيتها للاستمرار في الحكم ولزيادة التسلط والارهاب والظلم والتعسف لكونها ماجورة وتؤجر البلد ومن فيها لمن يدفع اولا لايهمها سوى مصلحتها الخاصة وافراد العائلة المالكة واتباعهم من المرتزقة والمتسولين على اعتابهم فالعائلة المالكة اولا ثم اولا ثم اولا ولياتي الطوفان فيما بعد المهم المصلحة العائلية اولا واخيرا كما هي الحال في الاحزاب والقوى السياسية العربية ان تجربة الوحدة عام 1958 مابين سوريا ومصر باسم الجمهورية العربية المتحدة تجربة رائدة وبارزة في التاريخ العربي الحديث فتؤكد سلامة الرؤياوالمنطق والايمان بحركة القومية العربية ومبادئها واثبتت علمية وفاعلية الخط القومي وزادتة وضوحا واظهرت مقدرة الجماهير على التضحية والنضال والتحررمؤكدة الاسباب الاتية
1. ان الوحدة مطلب شعبي عربي واستجابة تاريخية وحتمية
2. ان الوحدة التي تناضل الجماهير من اجلها هي وحدة الامة والوطن والمواطنة والولاء القومي بنضالة ضد الاقليمية والطائفية والعشائرية والمذهبية من اجل دولة الوحدة
3. ان الوحدة هي الطريق الوحيدة لتحرير الوطن العربي وتقدمه للحاق بركب الدول المتقدمة .
4. ان الوحدة هي الطريق للقضاء على التجزئة والتخلف والفقر والمرض واسقاط الاقليمية لتحقيق العدل والمساواة .
5. ان الوحدة تحقق التنمية الشاملة وتتغلب على الصعاب والمشاكل التي تواجه الشعب العربي .
6. فبالوحدة يتم القضاء على دويلات سايكس بيكو ومخططات الغرب والصهيونية العالمية وعملائها داخل كل قطر عربي .
وأثبتت تجربة عام 1958م ان النضال هو الطريق الوحيد لتحقيق حلم الشعب العربي بالوحدة بالاعتماد على القوى الثورية العربية لاستمرار العمل الوحدوي النضالي .
• إن العمل القومي شرط أساسي لنجاح أية قضية أو مشكلة عربية وليس العكس .
• إن الجماهير الشعبية هي صاحبة المصلحة الأساسية والضامن الحقيقي لكل ثورة .
• وضع كامل الامكانات والطاقة الضرورية في خدمة الثورة والعمل الثوري وليس العكس وهذا ما يميزها عن غيرها ليمد ويغذي الطاقات الثورية و يساعدهم على اثبات وجودهم والوقوف في وجه من يعارضون عملية التغيير الثوري أو من يقفون عائقا أمام تحقيق الاّمال والأهداف القريبة والبعيدة للجماهير .
• إن النضال الاقليمي لا يستطيع أن يحقق للجماهير امالها وأ هدافها القريبة والبعيدة وليس لديه المقدرة الكافية للتغلب على المشاكل التي تواجه المجتمع العربي بجماهيره الشعبية .
• إن على الجماهير العربية والتقدمية بشكل أساسي ا لانفتاح على تجارب الشعوب الأخرى انطلاقا من التجربة العربية لأن الثقافة والوعي والاطلاع على تجارب الغير ما يغني التجربة العربية ويخرجها من الجمود والشعارات الزائفة .
• ان الوحدة الفكر ية تؤكد سلامة الرؤيا بانتصار الجماهير بثورتها لتحقيق حلمها وترجمة شعاراتها إلى واقع عملي .
• ان تحالف قوى الشعب العامل هو البنية الأساسية لاستمرار النضال الثوري والعمل الوحدوي العربي من المحيط إلى الخليج وتشكل بداية الطريق للنضال ا لجاد الملتزم بأهداف النضال القومي العربي .
فالناصرية بقيادتها للثورة العربية وضحت الطريق والتصور الشامل للمجتمع العربي بفكرها السياسي والاجتماعي
فالاضافات الفكرية الناصرية حولت الفكر القومي العربي الى ايديولوجية للثورة العربية
سيبقى اسم الجمهورية العربية المتحدة رمزا للنضال الثوري وشعلة مضيئة للقوى الثورية وكشف عصابة المرتزقة التي تامرت على الوحدة عام 1961 من اجل حفنة من الدولارات ولخدمة الصهيونية وعملائها
ولكل من يتاجر ويحارب تحقيق الوحدة في الوطن العربي
فالتتوحد القوى المؤمنة بالتغيير والوحدة وتسخر كامل الامكانيات والطاقات العربيةليصبح الحلم حقيقة بوحدة عربية تمتد من المحيط الى الخليج باسم الجمهورية العربية المتحدة






الفكر الناصري و تطبيق الشريعة الإسلامية

د.عبد الحليم قنديل
العودة لتطبيق 'الشريعة القانونية' جانب مكمل للاستقلال عن الآخر الغربي، فقد فرض علينا الأخذ بالتشريع الغربي مع الغزو الاستعماري.

وليس في الأخذ بشريعة الإسلام القانونية ما يجرح مشاعر العرب غير المسلمين، أو يخل بمبدأ المساواة، وليس في الأمر إكراه، ولا فرض دين على غير المتدينين به، ولا إخلال بمبدأ حرية العقائد وهو مبدأ إسلامي مصون.

فالشريعة القانونية ملك لأمتنا جميعها على اختلاف الأديان، والنظام القانوني المستمد من الشريعة يجسد عبقرية أمتنا في القانون، والعرب والمسيحيون أولى بقانون الشافعي من 'قانون نابليون غير الديني'، إنها صيغة الإسلام الحضاري التي يرث تاريخها المسلمون والمسيحيون معا.

يقول المطران اللبناني جورج خضر 'حضارة أوروبا هي حضارة الأوروبيين، وأنا لم أساهم فيها، إنها في أفضل حال العروس، ولكني لست أباها، قد أتذوق أوروبا ولكني لا أكونها، وإذا استهلكت ما تنتج فهي لا تفتخر بذلك، وقد أفتخر، إنما هي تفخر بما تنتج، وهذا ثمر اجتهادها هي.

غير أني على هذه الأرض ابن الحضارات التي توالت عليها منذ فجر التاريخ، وورثتها جميعا الحضارة العربية الإسلامية، وأنا في قلب هذه الحضارة منذ بزوغها ورافقتها، وفي القرون الأخيرة علمتها'.

ولو كان لدى المسيحية شريعة قانونية تقابل شريعة الإسلام لجاز الاعتراض دفاعا عن مبدأ المساواة، لكن الحقيقة أنه لا يوجد شيء من ذلك.

فالمسيح ـ كما يقول الأب القبطي متى المسكين ـ لم يهتم أبدا بتشريع قوانين مدنية، ولم يجمع قط، ولم يخلط أبدا، بين مملكة الله ومملكة هذا الدهر، وقد رفض ملك الأرض، وأن محاولة الكنيسة الاهتمام بالأمور الزمنية باسم المسيح هو بمثابة تنصيب المسيح ملكا على الأرض .

لكن التساؤل يبقى عن مدلول هذه الشريعة القانونية ومزاياها وحدود تناقضها مع الوضع القانوني القائم؟

لابد ـ أولا ـ من التمييز بين 'المقدس' و'الوضعي'، أو بين 'الشريعة' و'الفقه' بمعنى آخر، فالشريعة ـ كما يقول د . محمد عمارة ـ ' دين وليست دنيا، ثوابت وليست متغيرات، ومصدرها الوحي لا الرأي والاجتهاد، والفقه الإسلامي في المعاملات هو ما نعنيه الآن عندما نتحدث عن القوانين الإسلامية.

وموضوع الفقه الإسلامي متميز تماما في الطبيعة والمجال عن الشريعة الإسلامية، وعلى حين رأينا علماء الإسلام ينبهون على أن الشريعة وضع إلهي، وجدناهم ينبهون على أن الفقه ليس كذلك، إذ هو كما يقول الجرجاني 'علم مستنبط بالرأي والاجتهاد يحتاج إلى النظر والتأمل' .

ومن ثم يجب أن لا يخلط معنى الشريعة مع معنى الفقه الوضعي العقلي غير الملزم دينيا، وتلك التفرقة واجبة حتى لا تختلط الأوراق.

وأصول الشريعة هي: القرآن والسنة والإجماع والقياس، والإمام أبو حامد الغزالي يستبدل العقل بالقياس في جعله من أصول الشريعة، فالقياس هو نوع من الاجتهاد، والإجماع هو الآخر ليس بمنأى عن سلطان الاجتهاد، والسبب: إن الإجماع الثابت يستلزم الإجماع النطقي بين الفقهاء لا الإجماع السكوتي المختلف فيه.

وهذا الإجماع الثابت لا يشمل سوى مسائل محصورة من الفقه لا يمنع استمرار ثباتها قدرة الشريعة على التطور مع اختلافات الزمان والمكان والظروف، والإجماع ينسخ مع تبدل المصلحة، ولا يبقى ثابتا سوى النص القرآني قطعي الدلالة والسنة المتواترة قطعية الورود قطعية الدلالة، وتلك الأخيرة لا تشمل سوى عدد محدد من الأحاديث النبوية .

وفي مجمل النص القرآني، فإن مئتي آية فقط تتضمن أحكاما تشريعية، والمقصود هنا ليس أحكام العبادات بل أحكام المعاملات، ومنها أحكام الأحوال الشخصية كشؤون الزواج والطلاق والمواريث والوصية، ومنها أحكام الجنايات والحدود وهي أربعة: حد السرقة (وهو قطع اليد)، حد القذف (وهو الجلد ثمانين جلدة)، وحد الزنا (وهو الجلد مائة جلدة)، وحد الحرابة (وهو القتل والصلب أو النفي من الأرض)، وأضيف لها حدان: هما حد الردة المتجادل في سنده ووجوبه، وعقوبة شارب الخمر وهي 'تعزيرية' استخرجها الإمام علي بن أبي طالب قياسا على حد القذف.

أما في المسائل المدنية فلم يتضمن القرآن سوى آية واحدة هي 'وأحل الله البيع وحرم الربا'، وهي التي يدور بشأنها جدال فقهي شديد حول فوائد البنوك في عصرنا، وثمة نصوص قرآنية أخرى ذات طابع تشريعي مثل الآية 'يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى'.

وأحكام الحدود في الشريعة تثير الجدل، فتطبيقها ملزم بالنص القرآني، لكن الممارسة والاجتهادات الفقهية وضعت شروطا لتطبيقها، فحد السرقة ـ مثلا ـ لا يطبق إلا إذا أخذ المسروق من حرز، أو أن يكون المسروق مالا متقوما، وألا تكون للسارق حاجة إليه وألا تكون فيه 'شبهة ملك'، أي أنه لا حد على من يسرق من أموال الدولة ـ مثلا ـ لأن له فيها شبهة ملك.

واتفق جمهرة الفقهاء القدامى على أن حد السرقة لا يطبق في الخطف والنهب والاختلاس، وفيما يتعلق بالزنا فقد اشترط الفقهاء لإثبات الجريمة شهادة أربعة شهود عدول يرون الفعل رأى العين من أوله إلى منتهاه، وبحيث لا يمر الخيط بين الرجل والمرأة، وتلك شروط يستحيل توافرها في أغلب حالات الزنا .

ومع الاتفاق على مبدأ تطبيق 'الشريعة القانونية' فلا بد من مراعاة أربعة اعتبارات أولها: إن الأصل هو التسليم بالنص القطعي مع الإيمان بالعقل والتطور، وقد تطورت الحياة الاجتماعية للمسلمين وغيرهم كثيرا منذ تم إغلاق باب الاجتهاد قبل عشرة قرون، وجدت جرائم بلا حصر، ولم تتطرق إليها بالطبيعة كتب الفقه المتداولة ومذاهبه الكبرى.

وثمة قاعدة في النظام العقابي للإسلام هي قاعدة (التعزير) تتيح لولاة الأمور تأثيم أي فعل يرون فيه إخلالا بالأمن وتقرير عقوباته الملائمة، وغلق باب الاجتهاد يجعل الجمود النصي والمذهبية الضيقة يطغيان على ما عداهما، ومن ثم وجب فتح باب الاجتهاد من جديد.

وقد وضع القدماء شرطين للمجتهد: أولهما: العلم بقواعد اللغة العربية، وثانيهما: العلم بأسباب النزول حتى يمكن للمجتهد تمييز وفهم الأصول، ونحسب أنه لا بد من إضافة شرط ثالث هو الوعي بمصالح الأمة والانتساب إلى أغلبية الشعب، فحيث توجد المصلحة العامة فثم شرع الله.

وبديهي أن المجتهدين الجدد ـ من القضاة وعلماء الدين ـ لن يكونوا أصحاب مذاهب فقهية جديدة، بل هم خبراء يدور عملهم في نطاق السلطة المدنية التي هي الأصل في الإسلام. شرط تمتعها بالتأييد الشعبي .

ثانيها: أن تطبيق الشريعة القانونية لن ينسخ على الفور نظامنا القانوني القائم، فلابد من التدرج من جهة، ولابد من إعداد أجيال متمرسة بالتفقه في الشريعة، ولابد من الوعي بالتحول الذي جرى لأنساق من البناء القانوني الغربي في بلادنا.

فقد تطورت في مصر مدرسة فقه قانوني على مدار قرن ويزيد منذ فرض 'كود نابليون' سنة 1883، ودخلت كثير من قواعد الفقه الإسلامي في بنائنا القانوني العام، فهناك التشريع المدني الذي صدر في مصر عام 1948 واستغرق إعداده أكثر من عشرين سنة.

وتضمنت مذكرته الإيضاحية: 'تأصيلا لكثير من القواعد في فقه الشريعة الاسلامية'، ثم إن جميع الأحكام المتعلقة بالأحوال الشخصية بقيت مأخوذة نصا من القرآن الكريم والسنة النبوية والمبادئ المشتركة بين مذاهب الفقه الكبرى، ومعنى ذلك كله: أن نقطة البداية هي تنقية القوانين القائمة مما يخالف الشريعة، وأحسب أن تلك النقطة صار مسلما بها لدى أغلب اتجاهات النخبة وأغلب الجمهور .

ثالثها: ان الميزة الكبرى في قضية العودة إلى الشريعة، فوق الاتساق مع ديننا الخالق لوجودنا القومي العربي والمميز لخصائصنا الحضارية، ان قوانين الشرع الإسلامي تتناقض في جوهر نظريتها الحاكمة مع قانون نابليون الذي فرض علينا تطبيقه.

فقانون نابليون يعرف الحق إقرارا به (الحق في الحرية، الحق في المساواة، الحق في التملك.. إلخ)، سواء توافر لصاحبه ـ كما يقول د. عصمت سيف الدولة ـ مضمون الحق فعليا أم لا، أما الشرع الإسلامي فلا يعرف الحق إلا على مضمون عيني يمارسه صاحبه فعليا.

وقانون نابليون يطلق تملك الأرض بدون حدود، والشرع الإسلامي يقصر ملكية الأرض على الانتفاع دون الرقبة، وقانون نابليون يطلق حرية استخدام الحقوق بدون قيود ولو أتلفها الاستعمال، أما في الشرع الإسلامي فاستخدام الحقوق ليس مطلقا وتقيده مصالح المجتمع.

وقانون نابليون يحمل مرتكب الفعل الضار أي الفاعل المباشر وحده مسؤولية تعويض المضرور، أما الشرع الاسلامي فيحمل الفاعل غير المباشر (المتسبب في الضرر) مسؤولية التعويض مع الفاعل المباشر وفي بعض الحالات دونه، وقانون نابليون لا يحمي المغفلين، أما الشرع الإسلامي فيحمي ذا الغفلة المغبون أو ضحية الغش والتدليس، وقانون نابليون يجيز الربا والاسلام يحرمه .

رابعها: ان الشريعة القانونية لا تؤتي ثمارها المرجوة لو طبقت في عزلة عن كافة جوانب البناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

إنها بذلك تفقد شروط تطبيقها من الأصل، وقد أوقف سيدنا عمر ـ مثلا ـ تنفيذ حد السرقة في عام الرمادة، فاتفق بذلك مع صحيح الإسلام، والسرقة من مال الدولة مثلا توجب تطبيق الحد وربما التزيد فيه أكثر من سرقة الأفراد، وتوفير كامل حقوق الانسان يتيح أفضل مناخ لتطبيق الشريعة، والعدل في التوزيع وتوفير حد الكفاية الانتاجية لكل مواطن يحاصر الجريمة من منابعها.

وكل ذلك لا يتحقق بغير مناخ نهضة شامل يزيح السراب الثقافي، ويكشف ـ كما يقول د. أنور عبد الملك ـ ذلك الوهم المتأصل في عقول وقلوب العديد من المثقفين العرب، والزاعم أنه لا جودة إلا في الغرب، ولا تطور إلا بالسير في دروب الغرب، (إنهم في الواقع عملاء حضاريون للغرب) على حد تعبير عبد الملك.





Copyright MyCorp © 2024استضافة مجانية - uCoz